لم يكن مريحاً الكشف عن معلومات جديدة في عطلة نهاية الأسبوع الماضي حول تزايد استخدام الولايات المتحدة لمصادر الاستخبارات الأجنبية في إلقاء القبض على المتهمين بجرائم الإرهاب والتحقيق معهم. ذلك أن المطالبة برفع المعايير القانونية في التعامل مع المتهمين بهذه الجرائم، عادة ما تؤدي إلى اتخاذ تكتيكات تعويضية عن هذه المطالبة في مجال آخر، وهو ما ينجم عنه إلحاق الضرر بالمتهمين، الذين يكون بعضهم أحياناً مدنيين أبرياء من الاتهامات الموجهة إليهم. ويذكر أن برنامج تبادل وتسليم المتهمين والمجرمين الذي يتضمن إلقاء القبض على المتهمين بجرائم الإرهاب وتسليمهم إلى دولة أخرى (خارج نطاق العملية القضائية)، كان قد بدأ في الأصل منذ عقد التسعينيات. واضطرت الإدارة السابقة لاعتقال المتهمين في شوارع البلدان الأخرى وأخذهم للتحقيقات من أجل استخلاص ما لديهم من معلومات. ولم يكن ممكناً نقل أولئك المتهمين إلى الولايات المتحدة للتحقيق معهم داخل السجون المحلية، بسبب الصعوبات العملية التي يضعها القانون الأميركي أمام هذا الإجراء. وعليه فقد كان سهلا على واشنطن ترحيل المتهمين الذين يلقى القبض عليهم إلى دول أخرى مثل مصر وغيرها، بهدف التحقيق معهم واستخلاص المعلومات المطلوبة منهم. وتكاد الظاهرة نفسها تنطبق على معتقلي الولايات المتحدة في سجن جوانتانامو الكوبي، الذي أنشأته إدارة بوش عقب هجمات 11 سبتمبر، اعتقاداً منها بحاجتها إلى تطبيق نظام جديد لاعتقال المتهمين والتحقيق معهم، يختلف عن النظام المسموح به داخل أميركا. وخلال السنوات الثماني الماضية واصلت المحاكم الأميركية تصديرها للمعايير العدلية المعمول بها إلى الجزيرة التي أقيم فيها السجن المذكور. غير أن إدارة أوباما أعلنت عن قرارها بإغلاق السجن. والحقيقة أن إغلاق جوانتانامو أو تطبيق نظام العدالة الأميركية على سجنائه، لن يضعا حداً لمشكلة اعتقال المتهمين بجرائم الإرهاب على أية حال. بل الصحيح أن أياً من الخيارين المذكورين سوف يدفع واشنطن إلى التصدي لهذه المعضلة بوسائل وطرق أخرى. فمن النتائج التي قلما لاحظها المحللون والمراقبون، أن رفع المعايير العدلية المطبقة على نزلاء جوانتانامو، أدى إلى انخفاض عدد المشتبه بهم الذين تم إرسالهم إلى السجن خلال السنوات الأخيرة الماضية. فبدلا من ذلك الإجراء، كانت الإدارة السابقة أكثر ميلا لإرسال مزيد من المتهمين -دون محاكمتهم أو توجيه أي اتهامات محددة إليهم، ودون الخضوع لأي رقابة عامة في هذا الشأن- إلى معتقلات أخرى، مثل قاعدة باجرام الجوية في أفغانستان. من الخيارات أيضاً، إرسال المتهمين إلى دول عديدة أخرى تنخفض فيها معايير معاملة المتهمين والتحقيق معهم. وليست هذه نهاية لعبة القط والفأر بين المتهمين وملاحقيهم. فنتيجة لتزايد خضوع قاعدة باجرام الجوية للرقابة السياسية القانونية، لجأت إدارتا بوش وأوباما إلى الاعتماد على تكتيكات جديدة. منها على سبيل المثال، تأمين أجهزة المخابرات الأجنبية القادرة على أداء المهمة كلها: القبض على المتهمين، ثم سجنهم، وصولا إلى التحقيق معهم، مع ملاحظة أن هذه المهمة تكاد تنحصر في التعامل مع كبار المتهمين وحدهم. كما تشمل التكتيكات الجديدة أيضاً قتل وتصفية المتهمين. والملاحظ على هذا التكتيك الأخير كونه يخلص واشنطن من الحاجة لاعتقال المتهمين والتحقيق معهم، على حساب الإخلال بالمعايير القانونية، والذي يقع ضحيته متهمون ومدنيون أبرياء في بعض الأحيان. يمكن القول إذن أن هناك مشكلتين على أقل تقدير، تحيطان بنهج التصفية الجسدية لمتهمي الإرهاب. أولاهما، كونه ليس مثالياً من الناحية الأمنية. ففي حالات كثيرة، يكون من المفضل والأفيد للولايات المتحدة اعتقالها للمتهمين والتحقيق معهم، بدلا من قتلهم دون استخلاص المعلومات المطلوبة منهم. بل تستطيع الولايات المتحدة الحصول على معلومات استخبارية أفضل من أي دولة أجنبية أخرى، فيما لو باشرت هي اعتقال المتهمين والتحقيق معهم. وعليه يمكن القول إن اعتقال المتهمين في سجن جوانتانامو يعتبر أكثر أمناً من اعتقالهم في المنشآت الأخرى مثل قاعدة باجرام وغيرها من المنشآت المنتشرة في دول العالم الثالث. أما المشكلة الثانية فتتلخص في انتهاء المتهمين إلى معتقلات غالباً ما تنتهك فيها حقوقهم. فعلى سبيل المثال، يتمتع سجناء قاعدة باجرام بحقوق أقل من تلك التي يتمتع بها نظراؤهم في سجن جوانتانامو. وبالمقارنة نفسها يتمتع المتهمون في سجون الشرق الأوسط وجنوبي آسيا بحقوق اعتقال أدنى بكثير. فوق ذلك، فإن من المؤكد أن يتمنى المتهمون بجرائم الإرهاب لو ينتهي بهم الأمر إلى أي من هذه السجون والمعتقلات بدلا من أن تزهق أرواحهم الضربات الجوية الأميركية. وعليه فربما يزداد إغراء الدعوة إلى ضرورة أن نضع حداً لهذه التكتيكات غير الفعالة، وأن نستبدلها برفع المعايير القانونية المطبقة في كافة المعتقلات والسجون. تبعاً لذلك ربما علت الدعوة إلى تطبيق حقوق الاتهام والسجن والتوقيف على نطاق عالمي، إلى جانب تحريم ممارسات قتل المتهمين، ووضع حد للتعامل مع أجهزة المخابرات الأجنبية، خاصة في الدول المعروفة بسوء سجلها في مجال احترام حقوق الإنسان. ورغم نبل هذه النداءات، فإنه يجب القول بعدم واقعيتها. ذلك أن واجب لجم الإرهابيين ومنعهم من تنفيذ مخططاتهم التي تستهدف أمن مواطنينا وبلادنا، يظل واجباً تواجهه كافة الحكومات والإدارات الأميركية. وهذا ما سيرغم واشنطن دائماً على إيجاد واستغلال الثغرات القانونية بما يمكنها من تعزيز الأمن القومي في جميع الأحوال. ويعكس هذا النهج في التعامل مع متهمي الإرهاب اختلافاً كبيراً بين رؤية عامة الجمهور للخطر الإرهابي، ورؤية حكومة بلادها له. فعلى إثر مضي ما يقارب الثماني سنوات على هجمات 11 سبتمبر، دون أن تعقبها أي هجمات أخرى مشابهة على أميركا، بدأت شكوك الجمهور تزداد في جدية ما تردده الحكومة عن الخطر الإرهابي، خاصة إن أريد به تبرير تطبيق معايير عدلية أقل على المتهمين بجرائم الإرهاب. وفي المقابل لا يفارق الخطر الإرهابي عين الحكومة الأميركية لحظة واحدة، ولذلك فهي تبقى ساهرة ويقظة دائماً لحماية أمن مواطنيها. وضمن ذلك السهر فهي لا تكف عن تبني التكتيكات والاستراتيجيات البديلة لتلك التي تبدو مكلفة سياسياً أو قانونياً. وليس في هذا التبدل ما يعزز أمننا القومي أو يساعد الإرهابيين على تنفيذ مخططاتهم، إلا أنه يثير فينا شعوراً أفضل بالرضا عن الذات، لا أكثر. جاك جولدسميث ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أستاذ القانون بجامعة هارفارد، ومساعد سابق للنائب العام خلال عهد بوش ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"